البلدة القديمة في نابلس..تروي حكاية تاريخ عريق





ريبورتاج وتصوير: ديمة الحاج يوسف

إن كان هناك مدن تقام فوق مدن عبر التاريخ، فهناك مدن أخرى تقف شامخة في وجه الزلازل والمستعمرين، مدينة نابلس مدينة الياسمين أعرق مدن فلسطين، سميت (جبل النار، دمشق الصغرى...) يعود تاريخ تأسيسها إلى قرابة العام 3600ق.م ، ستبدأ رحلتي في بلدتها القديمة.








أينما يممت وجهك في أسواق البلدة القديمة ستجد كل ما تشتهيه من خضروات، فاكهة، لحوم، بهارات متعددة، محالات عطارة، زينه، ملابس أحذية ومحلات الورش والمهن،  وستلتصق عيناك بكل أنواع الحلوى المرصوصة في كل جوانب الأسواق في البلدة القديمه، لتتصدر الكنافة النابلسية وهي من أعرق الحلويات والتي تشهر فيها نابلس منذ عام 1850 لقدوم مواطن من سوريا إلى نابلس وفتح محل فيها ولكن كانت الحشوة بالمكسرات، ولكن إستبدل سكان نابلس  المكسرات بالجبنه.




 وأثناء تجوالي في الأزقة، كان لا بد لي أن أقف لأحصل على نصيبي من حلويات المدينة، فوقفت بجانب محل حلويات يبيع صنف من الحلوى تشتهر فيه نابلس، وهي "التمرية" وهي تصنع من عجينة القمح ويتم حشوها بالسميد كمكون أساسي وتقلى وترش بالسكر الناعم، والعديد من سكان نابلس يعشقونها، بالإضافة إلى "حلاوة الزلابيا" وهي عجينة هشة يتم حشوها بمربى القرع أو الجزر، بالإضافة إلى  حلويات عديده مثل "المدلوقه" العوامة، البقلاوة، والكثير.

وفي سياق الأطعمه التي تمتزج بالعادات، إلتقيت في شارع النصر الذي كان يعتبر السوق الحيوي  في الخمسينات والستينات بصاحب متجر للعطاره، هيثم عناب، ليحدثني عن عادة تمتاز فيها نابلس تستمر طوال شهر شعبان والمسماه "بالشعبونية" وهي عرف إجتماعي منذ العهد العثماني، حيث يقوم كبير العائلة بدعوة محارمه من النساء والأطفال المقربين له لإستضافتهم في منزله في مدة تتراوح من ثلاثة ايام إلى أسبوع في السابق وحاليا لمدة نصف يوم تعد فيها الولائم ويتسامرون في السهرات الليلة، وهي بالنسبة إليهم ليست عادة إجتماعية بقدر ما هي صلة رحم يحرصون على الإلتزام بها، مما يجعلك تشهد إزدحام الأسواق في شهر شعبان لإستيفاء متطلبات العزائم.

في المقابل نادرا ما يقوم سكان نابلس بالعزائم في شهر رمضان، لرغبتهم في الإنشغال بالعبادة والطاعات، ولكن في منتصف شهر رمضان هناك عادة لديهم تسمى "بالفقده" يقوم الرجل بتقديم النقود لمحارمه، استبدلت من سلة غذائية إلى نقود مالية، نتيجة للإنتفاضة الأولى والثانية وما ترتب عليها من ظروف إقتصادية صعبة.

أما الأعياد الدينية الرئيسية (الفطر والأضحى) يستقبلها سكان نابلس بزيارة القبور ولكن ليس للحزن والبكاء، بل لتهنئة الأموات بقدوم العيد، ويعتبرها عناب، فرصة لتبادل تهاني العيد مع الجيران والمغتربين الزائرين للقبور، وعادة ما يكون الفطور لديهم  في أول يوم العيد يتصف بالدسامة لإحتوائه على لحوم أو الفسيخ، والحلويات الأشهر في العيد هي المعمول (بالتمر) وباللوز، أما في المولد النبوي ورأس السنة يستقبله سكان البلدة القديمة بالحرص على تناول أكلة لونها أخضر (كالدوالي والملوخية) وذلك تبشيرا بالخير.

أما في حال حدوث وفاه، فبيت الأجر ثلاثة أيام للرجال، وسبعة أيام لنساء، وذلك لكثرة مشاغل الناس وظروف الولادة والحمل التي يطرأ عليهن، ولصعوبة حركتهم الدائمة في الزيارات.



وما إن أنتهى حديثي مع السيد عناب حتى إلتقيت بمحل مجاور له بعض الشيء، لتصليح الأدوات التالفه، كان المحل ضيق وتعمه الفوضى والأدوات القديمه، صاحب المحل كان مطأطأ رأسه بإتجاه المنضدة منهمك في تصليح ساعة يدوية، هو رجل هادئ رصين يمارس هذه المهنة التي عاث عليها الدهر منذ خمس وثلاثين سنه، ويراها مهنة لا مستقبل لها ومن المستحيل أن يمارسها أحد من بعده لعدم جدواها، وحدثني محي الدين محرم حشحوش، عن المهن التي إنقرضت في البلدة القديمة مثل مهنة النحاسيين، المبيضين، المنجدين، فلم يبقى سوى القليل جدا من محلات التنجيد في البلدة القديمة بعد إن كانت مهنة مزدهرة.

من المثير للإعجاب أن جميع سكان البلدة القديمة يعرفون بعضهم ويطرحون السلام على بعضهم البعض، لكن وجوههم مثقله بالتعب، يجلس اصحاب العديد من المحلات على أبواب متاجرهم ينتظرون مشتريا أو حدثاً يقلب الأحوال المتردية، وذلك بسبب الركود الإقتصادي والسياحي الذي يعصف بالبلدة القديمه وفلسطين عامة، لكن من بين أسواق البلدة القديمة السبعة، يمتاز سوق "الخان والحدادة" بإزدهار ونشاط تجاري ازدحام مروري يترافق مع أصوات الباعه وهم يحثونك على الإقتراب لرؤية وشراء بضائعهم، وتتميز تلك الأسواق بطولها وضيق عرضها وتلاصق حوانيتها، مع القباب العالية، ومرصوفة أرضها، يظهر فيهم علامات الترميم والتجديد والتطوير مع المحافظة على سحر الماضي.



ولكن تعاني البلدة القديمة من الإهمال بالرغم من المحاولات المتعددة التي تم تنفيذها في ترميم البلدة القديمة ولكن تعتبر غير كافية وتستدعي تضافر جهود وزارة السياحه،والإقتصاد، ووزارة الآثار، البلدية وغيرهم لتطويره، فلا يوجد إلا ما ندر محلات لبيع تذكارات وتحف مصنوعة يدويا أو متاحف وذلك لعدم تهيئتها بشكل كاف للوفود السياحية لرؤية التحفة التاريخية التي تتمثل بالبلدة القديمه وما تحويه من كنوز تاريخية من السبل المائية فمن المستحيل الشعور بالعطش لكثرة السبل المائية العذبة الباردة فيها، بالإضافة لوجود مقامات، زوايا، مساجد تاريخية، مصابن، آثار، والقصور القديمة.


وفيها حمامات تركية، حيث تصطف "الأراجيل" على حواف النافورة التي تتوسط المكان يقابلها مجالس للجلوس عليها، ويعلوها قبة عالية فيها فتحات، وتتوفر خدمة الساونا، المساجات ،البخار، العلاج طبيعي، ولا زال إثنان من أصل أحد عشر حماما من حمامات البلدة القديمة يعملان حتى يومنا هذا وهما حماما "الشفاء والهنا".

أما "الأراجيل" فهي لا تقتصر في نابلس على الرجال فقط، بل تتعداها إلى السيدات والفتيات، بعكس مناطق الضفة الأخرى، ويهتمون بشكلها وتزيينها، ويتوفر لديهم عدة "أراجيل" في المنزل ذاته ليكون لكل منهم طعم ورائحة.

وستشعر روحك بالسكينة وأنت تسير بين أزقة البلدة القديمة، لتعدد الأماكن الدينية، حيث فيها مساجد تعود للعهد الأيوبي، العمري، المملوكي، العثماني، ومنها للفترة الرومانية بعد تحويل الكنائس للمساجد، ولكل منهم قصة وتاريخ عريق.

وبالمصادفة زرت مصبنة عرفات تم بناؤها عام 1593 تم تحويلها لمركز ثقافي ومعرض فنون، تعرضت لتخريب هي ومعالم البلدة القديمة نتيجة للاحتلال، محاولة لطمس معالمها الحضرية وإرثها الثقافي، حيث تعرض 2000 معلم، أبرزها جامع الخضراء الذي يقدر عمره بـ 400 سنة، وخان الوكالة لأضرار متنوعة أثناء اقتحامات الجيش الإسرائيلي في المدينة منذ بداية الانتفاضة الثانية.

 و إنحسرت صناعه الصابون النابلسي التقليدي من 25 صبانه إلى خمس تعمل حاليا.

حارات البلدة القديمة الإثنا عشر، فيها أسواق وأزقة متشابكة مع بعضها مثل حارة المسك، القريون, وحارة "الياسمينة" التي سميت كذلك لكثرة الياسمين فيها وسكن فيها عدد من العائلات العريقة مثل قصر عبد الهادي الذي تم تشييده عام 1820 وسط حارة الياسمينة، شيّده الوالي حسين عبد الهادي هو مركز ثقافي الآن، بالإضافة إلى روضة للأطفال وعيادة صحيه، ويحتوي على 144 غرفة كبيرة الحجم.

أما  قصر آل نمر الذي يقع في حارة "الحبلة" يضم عدة غرف ما زال يقطن فيه بعض من أفراد أسرة آل نمر، وفيه بستان كبير من شجر الليمون والتين.



وانتهت رحلتي في البلدة القديمة عند ساحة المنارة برؤية برج الساعة، يقع في باب الساحه، أنشئ على أثر قيام السلطان عبد الحميد بإهداء مدينة نابلس ساعة بمناسبة عيد ميلاده، وهو يعد حاليا شعار ورمز لمدينة نابلس.


وقبل مغادرتي البلدة القديمة كان لزاماً علي احتراماً لجمالية وتاريخ المكان، لهذا وقفت وأغمضت عيني وحبست أنفاسي لأشتم رائحة التاريخ الممتزج برائحة القهوة والياسمين التي تفوح من حارات البلدة القديمة في نابلس، انتهت جولتي في البلدة القديمة ومررت في أزقتها عبر مئات السنين من الأحداث التي تشكلت كحجارة في لوحة فسيفساء تروي كل منها حكاية فما عليك سوى الإصغاء.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اكتشافات تل الفارعه..الكنعانيون هنا منذ الالاف السنين

اقتباسات من كتاب "التخلف الاجتماعي مدخل الى سيكولوجية الإنسان المقهور".