وطن يقتل الإبداع ببراعة

بقلم: ديمة الحاج يوسف 

في الابتدائية اعتادت يداي على الضرب حتى إني كنت أمدها للمعلمة قبل أن تطلب مني ذلك فتبتسم لطاعتي واستكانتي وتضربني بعصا مفروشة بالمسامير بكل ما أوتيت من قهر وغل تفرغه على يداي الصغيرتان.

قد أبكي للمرة الأولى وبعدها سأفقد الشعور ليسدون لي صنيعا فيما بعد حين أكبر وأواجه صفعات الحياة التي هي اشد إيلاما وقسوة.
في الإعدادية سيكون لدينا مستودع من الشتائم في عقولنا قبل أن تلفظ لنا, سنغفو في حصة الرياضيات لعجزنا عن حفظ  جدول الضرب وسترتعش يداي في حصة الدين أن أخطأت في إيه أو حرف ما فقد اتهم بالهرطقة والزندقة.



 سأشتم التاريخ بيني وبين نفسي لتسليطهم على هزائم عصر لا أعرفه ولن يعرفني! سأحمل حقيبة المدرسة وهي تفوقني وزنا وخوفا, سأسير مطأطئة الرأس خشية أن يساء الظن بي لجرأتي! سأنشد كل صباح قصيدة لوطن لا أعرف مزاجه المناخي والتاريخي!.

 سأختار في كل فصل المقعد الملاصق للنافذة التي يصممونها ببراعة كسجن أو زنزانة لضيق الفراغات والتهوية علني أخترق عالمهم وأحلق في عالمي كي لا تصطادني المعلمة التي تشرح لبعض الطالبات وتغض الطرف عن الخمس والأربعين المتبقون للعدم!.

ستبحث المعلمة عن المواهب بين الأعين الزرقاء والخضراء والبشرة الفاتحة ليتركن السمراوات والمائلات للحنطة لما هن عليه, سيتساءلون عن أحلامنا ليدوسوا عليها لأننا جيل فاشل لم يكن ليكون وان مخيلتنا خصبه أكثر مما يجب, سأضع يدي على فمي وأضحك بسخرية حين  يقولون أن المدرسة شعارها (التربية والتعليم).

أما في الثانوية سيكفون عن ضربنا لأن سياطهم قد تركت وشما على جلودنا وقد زحفت التجاعيد على وجوه المعلمات وسيصيب تلك المعلمة التي درست جدتي وأمي الوهن من مسك العصا لتتذرع بمعاملتنا باحترام ولكن لن تكف عن بث الجراثيم في نفوسنا.
صورة أرشيفية 

لنمرض بالخوف والتوتر وانعدام الثقة ستقف كلا منهن أمام أعيننا لتتفحصنا كقطعة ثياب أو كامرأة تفترس زوجة ولدها! وبعد أن تنتهي من تأمل ملامحنا سترفع أصابع يدها لتبدأ بتقييم كل واحدة منا.

لتقول وكأنها منجمة فلكية أو قارئة فنجان بحصيلة معدلاتنا في الثانوية العامة (أنتي ب90 وأنتي ب 70 أما أنتي اشكري الله إذا حالفك الحظ وتمكنت من شم رائحة الخمسين).

سنفرغ أفواهنا وسنصدقهم وننوح بحسره لضياع مستقبلنا وسنضع يدانا على وجوهنا لنخفي خيباتنا التي لم تحدث بعد؟! وبعد أن تتباهي بتأثيرها علينا ستواسينا بالقول المشهور " لا تتأملن حتى لو ذهبتن إلى المريخ ستكون نهايتكن الطبيخ".

وهكذا ستسرح مخيلات زميلاتي بالفستان الأبيض والرقصة الهادئة وطقم الذهب اللامع؛ لهذا لا استغرب حين أرى جميع زميلاتي وصديقاتي متزوجات وعندهن أولاد وأنا ما زلت سنه ثالثة جامعه فما أن أجد وظيفة سيكن جدات بمشيئة الله.

 في الثانوية سيكثف أقاربك وجيرانك وأهلك نشاطهم ليحاصرونك برا وبحرا وجوا، ولن نجد مضيق نلتجئ إليه سوى الدعاء إلى الله، ستنام أربع ساعات وستتلافى النظر إلى نفسك على المرآة كي لا ترى وجهك البائس الضارب إلى الصفرة وعيونك الجوفاء من الهواء والأحلام.

ستبقى أسيرا لهلوسات المعدل فأنت لا تستحق الحياة أن لم تحصل على المعدل التسعيني، ستعتقد أنها نهاية العالم حتى إنني كنت مصممة على النوم سنة بأكملها بعد انتهائي من هذا الجحيم.

 وبعد أن أثبت لنفسي بأني استطيع وخسرت الحارة الرهان علي لحصولي على المعدل التسعيني الذي يلائم مستواهم وتطلعاتهم, سيفتخرون بك وسيسألونك عن اسمك وعمر تعاستك ولن يسألوك عن ماذا تريد لتبدأ مؤامراتهم ومخططاتهم لصنعك فأهل مكة أدرى بشعاب فلسطين أيضا!.

 سأتمرد وأبكي، سأضرب كالأسرى عن الطعام والكلام وسأغلق على نفسي الباب حتى يستجاب لمطالبي! وبعد استئناف ومماطلات سيتم البث في أمري لتتنازل السلطة العليا عن تقرير مصيري المزدهر بالإنهزامات.

 سأنطلق إلى الجامعة لأعتقد بحماقة إنني أسير محرر وما هو سوى سجن أكبر من سابقه، لأدرك بأني لست حرة حين أفك القيد بل حين أتعلم أن أكون حرة، سأستاء حين لا أجد من يكتشفني وسيوهموننا بكتابة الفكرة الرئيسية لتعرف فيما بعد أن الفكرة الرئيسية هي من الألف إلى الياء و أن تحفظ كل سطر كاللوح دون أن تفهم.

لهذا تبا لكل الكراريس والأقلام والمقاعد التي تقيدنا والكافيتريات المزدحمة بأمة تتوه في المكتبات في موعد الامتحانات، تبا لشغف يموت قبل أن يولد, هل يستطيع أن يجيبني أحد لماذا لا يوجد احترام لقيمة الإنسان في عالمنا؟ في الوقت الذي أرى عالم على  شاشة التلفاز يبكون كلبا لندرة الموتى.

 لماذا تحتفل تلك الشعوب بالكاتب والرسام والراقص والمغني والمخترع ومتصلق الجبال والسباح وكل إنسان ونحن لا نفعل إلا اغتيالهم بالإحباط، أنا لن أقارن عالمي بعالمهم كالمستشرقين والمغتربين لأني لا أنكر أن الملايين قتلوا بحروب ومجاعات حتى وصلوا لما هم عليه.

 ولكن ألا يحترق قلوبكم على تأخرنا عن الركب و أن الربيع العربي الذي اشتعلت نيرانه في كل مكان لن نرى وروده إلا بعد ذوبان الثلج عنه، وبعد أن يحترق الآلاف من بوعزيزي عن قهر مفخخ في داخلنا.

علنا نحيا في وطن يخجل من قذفنا إلى عرض البحر لدول لا تعرف لغاتنا وأسمائنا، لنحيا في وطن لا يقتل الإبداع ببراعة لننير شمعه بدلا من لعننا المتكرر للظلام!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اكتشافات تل الفارعه..الكنعانيون هنا منذ الالاف السنين

اقتباسات من كتاب "التخلف الاجتماعي مدخل الى سيكولوجية الإنسان المقهور".