الخليل..مدينة رئتها التجارة

ريبورتاج وتصوير: أوطان خلاوي و ديمه الحاج يوسف
   
   سوق الملابس وسط البلدة القديمة

"ضحايا ضحايا"، كانت صرخة رجل مسن، يجر عربته المحملة بالجرائد،  وقفنا في زاوية الرصيف نبحث عن الظل وننظر إليه وهو يبتعد بتثاقل عنا، ينادي على آخر المستجدات وسط جلبة كبيرة في دوار ابن رشد.

 كنا نتأمل في الوجوه لنشعر بأنهم جميعا متشابهون! وأنهم يبادلونا النظرات أيضا، خاصة مع وجود إحدانا بدون غطاء على الرأس، مما جعلها محط أنظار واستغراب الكثير، وذلك يعود لطابع المحافظة الطاغي في المدينة.وكنا قد وصلنا لتو مدينة الخليل، بعد ساعتين و نصف الساعة منذ انطلاقنا من مدينة نابلس، والتي تبعد 100كم عنها.

لتكون بداية جولتنا هي كنيسة  المسكوبيه، برفقة إيمان عداربه التي تعمل في لجنة إعمار الخليل، وهي مؤسسة تكرس كل جهودها لتحمي البلدة القديمة من الاستيطان.


قامت إيمان باصطحابنا بجولة في مدينة الخليل، التي قد تبدو لزائرها لأول مرة، مدينة لا تنتهي، إلا أن يتوقف التاكسي، أمام الباب الحديدي الضخم لكنيسة المسكوبية، فتح لنا السيد أنور زبلح البوابة، وهو حارس الكنيسة منذ 40عاما.

 لتصيبنا الدهشة، ونحن نسير وصولا للكنيسة التي تمتد مملوكيتها على مساحة 70 دونما، مزروعة بشجر البلوط والصنوبر في كل الاتجاهات، وهناك تربض شجرة البلوط "المقدسية" متهالكة يابسة تحملها عمدان من الحديد لتبقى شامخة في وجه الشمس لمدة خمسة آلاف عام وفق ما قيل لنا، وصدمنا حين عرفنا بأن الخليل لا يوجد فيها مسيحي "خليلي" واحد، وإن كل من يعيش في هذه الكنيسة خمسة من المسيحيين الروس. و سميت الكنيسة بهذا الاسم نسبة إلى كلمة موسكو.
         
                                      
شجرة البلوط المعمرة                              كنيسة المسكوبية






جامعة الخليل

انطلقنا بعدها إلى أقدم جامعة في فلسطين منحت درجة البكالوريوس في التخصصات المطروحة فيها، حيث تأسست عام 1971م، وعندما دخلنا إلى الجامعة، استوقفنا الأمن، وطرح علينا عدة أسئلة حول من نحن وما هدفنا من الزيارة، فعرفناه بأنفسنا.

 فاصطحبنا إلى دائرة العلاقات العامة لديهم، وقمنا بتوقيع أسمائنا، وقاموا بتصوير بطاقاتنا الجامعية، وانتظرنا لوحدنا في غرفة، ننتظر طالب قاموا باستدعائه ليأخذنا جولة حول المكان، وفي أثناء الانتظار ابتسمنا لصورة لشيخ محمد علي الجعبري مؤسس الجامعة المعلقة على الحائط، وبعد ربع ساعة جاء الطالب، وقام بتعريفنا على معالم الجامعة، التي تتكون من خمس مبان وثمان كليات، ويرتادها سبعة آلاف طالب وطالبة.
 
ومن المثير للاهتمام، إننا لم نصادف شاب يجلس مع فتاة أو يتكلم معها، كل جنس يجلس مع شاكلته، في ساحات الجامعة البسيطة، متواضعة الخدمات.
وعرفنا بأن أغلبية الطلاب فيها من الخليل، ونسبة الإناث فيها تشكل أكثر من 70%، وأن غالبية من يدرس في الجامعة من القرى؛ لأن الفتاة في المدينة تتزوج في عمر مبكر، أما الشباب فمنهم من يفضلون الدراسة في الخارج وذلك لتوفر النقود لديهم، ومنهم من يلجئ للعمل مع والده في التجارة دون إكمال تعليمه الجامعي.


وأثناء تجولنا لفت انتباهنا نادي رياضي فخم في حرم الجامعة، واستغربنا حين عرفنا بأن الطالب الذي يريد التدرب فيه، عليه أن يدفع في كل مره يدخل فيها، وذلك لكون النادي لا يتبع للجامعة بل لأحد رؤوس الأموال.

وكان الطريق إلى مكتبة الجامعة وعر غير معبد بعد.


مدخل جامعة الخليل أقدم الجامعات الفلسطينية                         صورة من الأرشيف

وفي البداية تشاورنا فيما بيننا؛ لأن المكتبة تقع في الطابق الرابع من المبنى ولا يوجد فيها مصعد، وكان التعب قد أخذ منا مأخذ، واتفقنا على صعود الدرجات الضيقة، لنعلم بأن مبنى الكلية قبل تأسيها كان سجن في زمن الانتداب البريطاني، لهذا ما زالت نوافذها وشكلها الهندسي يشعرك بهذا.

 وحين وصلنا إلى المكتبة قمنا بعد أجهزة الحاسوب لنجد أنهم 19 حاسوب في المكتبة، ولا يوجد فيها مكيفات، وتتمركز أمامك عدة كاميرات، يصعب إحصائها ويسهل رؤيتها، أمام كل طالب، والذي يجب عليه أن يقوم بتسليم حقيبته لمشرف المكتبة خوفاً من قيام أحدهم بسرقة كتاب من بين 65 ألف كتاب تصطف على رفوف المكتبة.


وبعد خروجنا من الجامعةً، وقفنا في انتظار تكسي ليقلنا إلى وجهتنا التالية، ليقع نظرنا مباشرة على ديوان آل القواسمي، الذي يوحي شكله الخارجي ببذخ الحداثة، حيث أنه مبني بالكامل من حجر الرخام الأبيض.
وما زالت تحافظ كل عائلة في الخليل على تقليد الديوان، الذي يلعب دورا مهما في حل النزاعات التي تشب في العائلة نفسها، أو بين العائلة وغيرها من العائلات، بالإضافة لعقد بيوت الأجر (العزاء) التي يقومون فيها بتوزيع القهوة السادة والتمر.

ويقع الديوان في حي الجامعة، وهو أحد الأحياء الحديثة الآخذة بالتكاثر على تلال المدينة، وفي التاكسي كثيرا ما استوقفنا المباني السكنية والتجارية الضخمة والسيارات الفارهه، لنرى أحياء تظهر عليها بوضوح مظاهر الرفاهية والفخامة.

 ومن المثير للغرابة كثافة المحلات التجارية، التي تزدحم حتى في الأحياء السكنية، حيث لا يخلو مبنى سكني من محل تجاري وجميعهم متراصين بجانب بعضهم البعض، حتى اعتقدنا للوهلة الأولى، بأن كل فرد "خليلي" يملك محلا تجاريا! وكأنها أمست أحد العادات الكثيرة لأهل هذه المدينة، أو أنها تقليد يجب ممارسته و الحفاظ عليه، تماماً كما يتم المحافظة على المأكولات الخليلية التقليدية.


وللأسف لم يكن لنا نصيب من تذوق هذه المأكولات، ففي الخليل أصابت مظاهر الحداثة كل ما تقع عليه العين، فلا مجال لحوانيت صغيرة الحجم أو مطاعم شعبية، ليست في وسط البلد على الأقل، حيث كنا قد اخترنا الذهاب لأقرب مطعم بعد أن أخذ الجوع منا نصيبا كبيرا.

ورغم أننا كنا نأكل "البيتزا" إلا أننا كنا نتلهف لتتعرف على المأكولات الخليلية، فحدثتنا إيمان عن المفتوته، واللبن المعقود، والمنسف الفلسطيني، والقدرة الخليلية وعن المأكولات الشتوية المفضلة لديهم، مثل اﻟﻄﻤﺎﺟﻪ، ﻭﺍﻟﺸﺸﺒﺮﻙ، ﻭﺍﻟﻌﺪﺱ ﻭالرﻗﺎﻕ، ﻭﺍﻟﻜﺸﻚ والرﻗﺎﻕ، وعن حلوياتها المفضلة مثل الدبس والعنبية والخبيصة والملبن وحدثتنا عن كيفية إعدادها، حتى ذاب الطعام في فمنا من كثر ما اشتهيناه!

وكان الطعام مدخلا لعالم العادات الخليلية، حيث "جر الكلام كلام" وبدأنا نتحدث عن أعراس مدينة الخليل الباهظة، والتي تكلف في العرس الواحد عشرات إلى مئات الآلاف من الشواقل، وتعد هذه من العادات الدخيلة الجديدة التي دخلت في ثقافة أهل الخليل، حيث بات الناس يخافون من اتهامهم بالبخل وعدم احترام الآخرين، فينفقون مبالغ طائلة على حفلات وقاعات وملابس وزينة و لائحة لا تنتهي تفرضها عليهم كثرة المتطلبات "التقليدية" ولكن بمظهرها الحديث.


فيقيمون حفلات خطوبة تليها حفلة "عبرة البيت" وهي لتتعرف العائلتان على بعضهم البعض، وتعد العروس كل أنواع المحاشي والمأكولات لاختبار قدرتها على الطبخ قبل الدخول إلى عش الزوجية. ومن تقاليدهم أيضاُ، أن تقوم العروس بزيارة أهل عريسها، وعليها إهداء كل أقاربه من الدرجة الأولى حقيبة بأكملها مليئة بالحاجيات! أما في حفلة الزفاف فيتوجب على العروس تغيير سبع فساتين!

وتختلف عادات الأعراس حسب المناطق، خاصة في القرى المحيطة بالمدينة. أما في داخلها فيختلف حجم الحفلات وعددها حسب توفر النقود. وتوفرها قد يشجع رجال التجارة في الخليل على تعدد الزوجات. وهو أمر قد ترضى به بعض النساء  المنتميات إلى عائلات راقية، طالما  تستطيع أن تسافر وتلبس وتقضي حاجاتها وتذهب لمناسباتها، على اعتبار أنها تحقق استقلاليتها. وأصبحت كل هذه العادات عبارة عن تنافس بين العائلات المقتدرة ماديا.

البلدة القديمة..تاريخا يتجسد في كل حجر

بعد التخمة التي أصابتنا، قررنا السير مشيا على الأقدام؛ لننتقل من عالم التجارة والبنايات العملاقة، لاكتشاف سحر البلدة القديمة، وما إن بدأنا نتوغل بداخلها حتى هالنا منظر الأزقة والأرضيات والجدران والوجوه التي تحدثك بصمتها قصة مضى عليها الزمن ولكنها ما زالت حية في ذاكرة المكان!.
 العلم الفلسطيني يتحدى وحشية الاستيطان


ولكن لم تكتمل فرحتنا برؤية هذا الجمال، لاستيطان اليهود فيها ومزاحمتهم عليها، حيث لا يتوانى الاحتلال فرصة لتضييق فسحة العيش إلا واقتنصوها، لهذا يستوطن اليهود في البيوت التي تطل على السوق في البلدة القديمة وذلك لإثبات وجودهم في المنطقة.

 ويقومون بإلقاء القاذورات والكحوليات من أعلى على المواطنين من هم تحت، حتى قام المواطنون بتغطية المكان بأكمله تقريبا "بشادر" لحماية أنفسهم وليشكلوا تحديا لوجودهم في وجه الدخلاء.

ومن مظاهر البقاء في وجه ذاك السرطان المنتشر بكثافة في البلدة القديمة في الخليل، وجود بيوت كثيرة ما زال يسكنها  أهلها مهما عرض عليهم من الأموال، وبالرغم من كل المضايقات التي يعانوها إلا وأنهم يرفعون علم فلسطين ليرفرف في الشرفات.

ففي الخليل 5 مواقع استيطانية وهي تل الرميدة، دبوريا، أسامة بن منقذ، سوق الخضار، والاستراحة، وأسعدنا معرفة أن (لجنة إعمار الخليل)  التي تأسست عام 1996 تقوم بعدة أنشطة لأحياء المدينة القديمة في الخليل ولإعمارها بالسكان وتوثيق الموروث الثقافي.

 حيث تقوم بإرسال المهندسين للبيوت القديمة، وهم بدورهم يقومون بتقدير التكاليف، ويؤمنوا تمويل لترميم وصيانة المباني في البلدة القديمة، والحفاظ عليها. وقسم البحث الاجتماعي يقدم للعائلات التي تريد السكن في هذه البيوت، إثبات إقامة، وتأمين صحي، وتقليل الضريبة عليهم، ويحصلون عليها بدون مقابل بشرط الجدية والالتزام، وقامت اللجنة بنقل أغلب مكاتب الوزارات ومكاتب البريد للبلدة القديمة لأحياء الحركة فيها.

وأكملنا مسيرتنا في الجزء "المفتوح "من شارع الشهداء، ونحن تحت تأثير سحر التاريخ المنبعث من كل حجر في المكان، ولكن ما لبثت أن عادت غصة في القلب تطفو على وجوهنا، برؤية المحلات مغلقة والبيوت مهجرة والشوارع مغلقة وأحياء كاملة تم سلبها من أهلها.

 وقفنا لدقائق أمام مدرسة أسامة بن منقذ، و التي تم تحويلها إلى مدرسة دينية يهودية، مقابلها ثكنة عسكرية، وأصبح اسمها "بيت رومانو" وتم تشريد أكثر من 400 طالب وما لا يقل عن عشرة مدرسين إلى مدارس متفرقة.

 ﻭوﺿﻌﺖ ﺳﻠﻄﺎﺕ ﺍلإﺣﺘﻼﻝ ﻳﺪﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﺳﺎﺣﺔ ﺍﻟﻜﺮﺍﺟﺎﺕ، ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻗﺎﻡ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻁﻨﻮﻥ ﻭﺣﺪﺍﺕ ﺳﻜﻨﻴﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻭﺷﻜﻠﻮﺍ ﺑﺬﻟﻚ ﺣﻴﺎ ﺍﺳﺘﻴﻄﺎﻧﻴًﺎ ﻣﺘﱠﺼﻼ ﻓﻲ ﻗﻠﺐ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺍﻟﺨﻠﻴﻞ القديمة، وبهذا تكون هي المدينة الوحيدة التي يقع في قلبها مستوطنه، حيث يقوم الاحتلال بتحديد الشارع المفتوح من المغلق بعلامة على الحائط، وتم إغلاق أكثر من 1829 محل تجاري بسبب المستوطنات حيث تشكل 76.6% من مدينة الخليل.

 
اشارة على ان شارع الشهداء مفتوح



              مدرسة اسامة بن منقذ
                                  

تابعنا المسير، لندرك أن سحر الخليل لا حد له، ولا نهاية لبداياته، فالبلدة القديمة التي نتوغل بداخلها، تصنع منذ مئات السنين ما تبيعه الآن، ويعود تاريخها إلى العهد الأيوبي والمملوكي والعثماني.

 ولم نتوانى عن التوقف أمام محل يبيع الأثواب التراثية الفلسطينية، كان الشيخ قد زحفت على عينية تجاعيد الزمن، ولكنها ما زالت عيناه الزرقاوات تشع لك نور لا تدرك كنهه، يتكئ على الحائط أمام أكوام من الأثواب الفلسطينية المطرزة يدويا، رخيصة الثمن، لا يتجاوز ثمن الواحد منها مائة شيكل.

 قال لنا بأن سوقها بات كاسدا وأن أغلبية من يشتري هذه الأثواب هم من القرى، وطفق يرينا بعض من الأثواب زاهية اللون بالإضافة إلى العكازات والطرابيش والعباءات وغيرها.


  

أثواب فلسطينية تشهد على التراث           






وما زلنا نراهن بأنك ستعجز عن السير في البلدة القديمة بالخليل، بدون أن تتوقف كثيرا بين الفينة والأخرى، أمام محل الليف الطبيعي الذي يتم إحضاره من أفريقيا وتقوم النساء بالبيوت بغزله بالسناره. 

أو دون أن تتسلل على وجهك ابتسامة، حين تسمع التجار يتحدثون بانجليزية ركيكة ومحببة لجذب السياح الأجانب، وستخجل من نفسك إن مضيت في طريقك دون أن تشتري شيئا، لكنك ستحتار في أمرك لوجود القلائد والأقراط من كافة الأشكال والألوان، خاصة إذا كان عندك ضعف تجاه الأقراط كحال زميلتي.

وتغريك متاجر الطعام والحلويات بالرائحة المنبعثة من قبابها، بأن تدخل لتعرف سر الوصفة التي أبقتها مستمرة سنيين طوال، فها هي معصرة شاور للسمسم، ما زالت تنتج السيرج، والكسبة وكل ما يصنع من السمسم منذ 50 عاما. 

وأصر صاحب المحل علينا تذوق الكسبة، وهي عبارة عن خليط من عجينة السمسم مع الحلاوة والطحينية، تغطى بزيت السيرج، وهو سر تتوارثه العائلة أبا عن جد.


أما محل عبد المعز سدر، الذي يصنع الحلقوم منذ عام1920م، فسر تميز صناعته هي الطريقة الطبيعية، دون وضع الأصباغ الملونة والجيلاتين كبقية المدن الأخرى، لذلك أشك يقينا بأننا مهما تذوقنا الحلقوم من قبل، لن يقارن بمذاق وجودة الصنع الخليلي.

 ويتكون الحلقوم أو الراحة كما يسمى بمناطق أخرى، من سكر ونشا بنسب معينة تطبخ على درجات حرارة مرتفعة تصل إلى 400-500 درجة مئوية، تستغرق بعدها من خمس إلى سبع ساعات حتى تبرد حيث تصب على ألواح كبيرة قبل أن تقطع إلى الحجم التجاري ويرش عليها السكر.

 ويتذكر صاحب هذا المصنع المتواضع تعرضه للحرق من قبل اليهود في 18-6-91 بهدف ترحيلهم عن المنطقة، والحلقوم أحد الحلويات المتعددة التي تصنع في الخليل على مدار العام، مثل القضامة والكعك و"ملبس ع لوز"، وغيرها من الحلويات التي تشتهر بها مدينة الخليل.


ومن الحلقوم إلى محل حلويات منذر الشوامرة، الذي يزاول المهنة منذ 40 عاما، والمحل موجود منذ عام 1975م، يصنعون فيه الهريسه والمشبك والكنافة وأصابع زينب التي تعد من الحلويات المفضلة في الخليل.

 أما الغريبة، فينتعش سوقها في الأعياد حيث يقوم الناس بتوزيعها عن أرواح موتاهم كتقليد وعادة. ويقوم المحل بتشجيع أصحاب المحلات المجاورة على فتح محلاتهم بقوله "ما بهون علينا نشوف المحلات مسكره".

  الغريبة وأصابع زينب أشهر الحلويات

أما إذا تلف حذاؤك فلا تلقيه جانبا، فما زالت مهنة الإسكافي لها أهميتها في البلدة القديمة، ككثير من المهن التي قد تعتقد أنها اندثرت، فلفت انتباهنا فرو الخراف المعلق في أحد المحلات، وقال أحد  التجار المحليين ويدعى محمد سعيد بأن الأوضاع الاقتصادية والسياسية جعلت صناعة دباغة الجلود نادرة، وبفخر شديد قال بأنهم يزاولون هذه المهنة منذ أكثر من 100 عام، ومدينة الخليل تصدر منتجاتها من صناعة الجلود إلى ايطاليا واسبانيا والأردن ودول الخليج.


ولأهل الخليل يدان لا تعجز بهم عن صناعة الصابون، والفخار، والباطون، والرخام، والألمنيوم، والنايلون، والدراجات الهوائية، والصناعات الخشبية والخزف، والصناعات الغذائية، فتراها منتشرة في الأسواق تملأ "البسطات" المنتشرة بكثافة المحال التجارية.


قطع اثرية في متحف الخليل

وبجانب إحدى بسطات  التذكارات السياحية "السوفينير" يقبع مدخل متحف الخليل؛ الذي هو عبارة عن حمام تركي قديم، سقفه يشبه خلية النحل بفتحاته المتعددة، والتي تسمح بالتهوية وإدخال الضوء، ﻳﻘﻊ ﻓﻲ ﻗﻠﺏ ﻣﺩﻳﻧﺔ ﺍﻟﺧﻠﻳﻝ، ﻭﻳﺣﺗﻭﻱ ﻋﻠﻰ ﻣﻭﺍﺩ ﺃﺛﺭﻳﺔ ﻣﺗﻧﻭﻋﺔ، ﻣﻧﻬﺎ ﺁﻧﻳﺔ ﻓﺧﺎﺭﻳﺔ ﺗﻌﻭﺩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺻﻭﺭ ﺍﻟﺑﺭﻭﻧﺯﻳﺔ ﺍﻟﻣﺑﻛﺭﺓ ﻭﺍﻟﻣﺗﻭﺳﻁﺔ ﻭﺍﻟﺣﺩﻳﺛﺔ.

 ﻭﻛﺫﻟﻙ ﻋﻠﻰ ﺗﻭﺍﺑﻳﺕ ﻓﺧﺎﺭﻳﺔ، ﺗﻌﻭﺩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺻﺭ ﺍﻟﺭﻭﻣﺎﻧﻲ ﻓﻲ ﻓﻠﺳﻁﻳﻥ، ﻭﻋﻠﻰ ﻗﻁﻊ ﺃﺛﺭﻳﺔ ﺗﻌﻭﺩ ﻟﻠﻌﺻﺭ ﺍﻟﺣﺟﺭﻱ-ﺍﻟﻧﺣﺎﺳﻲ، ﻭﻗﻁﻊ ﻣﻥ ﺍﻟﻌﻣﻠﺔ ﺍﻟﺭﻭﻣﺎﻧﻳﺔ ﻭﺍﻟﺑﻳﺯﻧﻁﻳﺔ، ﻭﻋﻠﻰ ﻣﻌﺻﺭﺓ ﺯﻳﺗﻭﻥ ﺑﻳﺯﻧﻁﻳﺔ.



سعادة ممزوجة بالألم..الحرم الإبراهيمي الشريف

اقترب موعد آذان العصر، واقتربنا من الحرم الإبراهيمي، ودقات قلوبنا أخذت منحى دافئ ومزعج في آن، فقد فرض علينا أن نمر عبر بوابة حديدية، ثم بوابتين الكترونيتين، فتشت فيها حقائبنا، ومرت أجسادنا عبرها.

 وبعد كل تلك المعاناة التي تثقل القلب، مشينا على درجات كبيرة تلامس جدرانه الكبيرة جدران قلبك، وحين دخلنا أبهرتنا الآيات القرآنية المزخرفة على الجدران والسقف، ألقينا السلام على سيدنا إبراهيم وإسحق وسيدتنا رفقة، ومن عبر النافذة سيدتنا سارة ويعقوب.

 وذلك لانقسام الحرم قسمين للفلسطينيين ولليهود، حيث تشكل المساحة التي يحتلها اليهود 65% من مساحة الحرم الشريف، وقال لنا مؤذن الحرم الشيخ صبحي أبو صبيح، بأن الاحتلال الإسرائيلي يمنع الآذان وقت ما يشاء، وخصوصا أيام السبت وفي أعياد اليهود يضطر الشيخ صبحي ومن معه، الى رفع السجاد عن الحرم؛ لأن اليهود يدخلون عنوة إلى المكان المخصص للفلسطينيين. 

وبعد أن فرغنا من صلاتنا رأينا المكان الذي دخل منه باروخ غولدشتاين وارتكب فيه مذبحة الحرم الشريف عام 1994 حيث قتل 29 من المصلين بصلاة الفجر وأثناء التشييع ارتفع عددهم إلى 50 شهيدا، ولفت انتباهنا الكتابات القديمة الرومانية على الجدران، حيث قام الرومان ببناء كنيسة فيه، وقام الفرس بهدمها، وقام صلاح الدين بتحوّيلها ﺑﻌد إﺟراء اﻟﺗﻌدﯾﻼت إﻟﻰ اﻟﺟﺎﻣﻊ اﻟﻘﺎﺋم ﺣﺎﻟﯾﺎ، وتعد الخليل رابع أقدس مدينة في العالم.

وفي 21 فبراير 2010 أقرت الحكومة الإسرائيلية ضم المسجد إلى قائمة المواقع الأثرية والتراثية واعتبارها يهودية، وخصصت لها 1.06 مليون دولا لصيانتها وترميمها، وفي عام 1967 أدخل الاحتلال خزانة خشبية، إلى الحرم فيها نسخ من التوراة، وفي المقابل أقرت اليونسكو ضم المسجد إلى قائمة المواقع الأثرية في فلسطين.

 وحين خرجنا من الحرم وجدنا بار لليهود جاثم بقرب الحرم، يرفعون فيه الأغاني الصاخبة طوال الليل، وتوجهنا عبر حاجز لنرى صناعة الزجاج الملون والزخارف والمطرزات، ومن المثير للاهتمام مشاركة الخليل عام 1873م في معرض عالمي بفينا بصناعة القناديل والزجاج الملون.

والمدينة ذات الطابع الديني تشتهر أيضا، بمسجد عثمان بن عفان الذي يعد من أقدم مساجد المدينة بعد الحرم الإبراهيمي، ومسجد القزازين  الذي تأسس عام 1040ه في حي القزازين، و سمي بهذا الاسم نسبة إلى مهنة القزاز التي تزاولها  عائلة النتشه منذ أكثر من 200 عام.
               
       الحرم الإبراهيمي الشريف                 صورة من الأرشيف                                                                                                       
وبعد الحرم الشريف توجهنا إلى تكية سيدنا إبراهيم، والتي بوجودها لقبت الخليل (بالمدينة التي لا تعرف الجوع أبدا)، تم تأسيس التكية في عام 1279 في عهد صلاح الدين الأيوبي، وتفتح التكية في كل الأيام.

 ومد موظف التكية عطا الجبريل يده وغرف حفنه وقال لنا "إننا نستخدم القمح في الطبخ، وليس الفريكه"، ويطبخون فيه الفاصوليا، والبازيلاء، والعدس، واللبن، ويستهلكون يوميا حوالي 700 كيلو من الدجاج، و300 كيلو لحمة، لتصل التكلفة في اليوم الواحد ستة آلاف دولار إلى 10 آلاف دولار. 

وفي شهر رمضان يطعمون 2500-3000 عائلة، وكل هذا يتحمل تكلفته رجال الأعمال من أهل الخير، بالإضافة إلى الشيخ حمدان بن زايد حيث يتبرع سنويا ب 120 ألف دولار، ولا يوجد تحديد لعائلة دون غيرها أو لمدينة الخليل دون قراها، فكل من يأتي لتكية فهو مرحب به.

وهكذا بدأ الغروب يهبط على المدينة، وبدأ النعاس يخيم على الدكاكين التي يغلقها أصحابها مبكرا، وشرعت المدينة تتنهد موسيقى حزينة، وركبنا حافلتنا مسرعين نودع المدينة الساحرة وخلفنا تقبع الذاكرة المعلقة بسحر دكاكينها التجارية.

 وكروم العنب التي تفترش الخليل فرشا، هي خضراء بمساحتها الزراعية التي تشكل 338.400 دونم يزرع فيها اللوز والتين والمشمش والحبوب، القينا السلام على المدينة التي يعود تاريخها إلى 5500 عام، لندعها بأمانة 600.364 فرد من الجبابرة في مدينة الإباء وما حولها، القينا رؤوسنا محملين بعبق محلاتها التجارية التي تتنفسها المدينة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اكتشافات تل الفارعه..الكنعانيون هنا منذ الالاف السنين

اقتباسات من كتاب "التخلف الاجتماعي مدخل الى سيكولوجية الإنسان المقهور".