"عصر السرعة"..كذبة متخمة

 بقلم: ديمة الحاج يوسف

كل القضايا المميتة والمؤسفة في العالم من قتل ومجاعات وحروب ولاجئين، وفساد محسوبية وواسطة ورأسمالية وامبريالية واستعمار وتلوث وغيرها، تتمنى أن تحل عن كاهلك وتسقط عنك لتلتصق بغيرك أو تموت أرضا، لأنك لم تملها بقدر ما مللت من نفسك.

 وتمسكك بقضايا لا تسمن من جوع، في عالم متخم بالسذاجة والسلع المتردية المستهلكة، ومهما حاولت لن تعود إلى عصر السبعينات أو الستينات أو حتى الديناصورات.



 ستبقى مهووس بكذبة "عصر السرعة" وان عليك أن تأكل دونات وهمبرجر فلا وقت لبامية الحجة وخبز الطابون، ولا وقت لزيارات العائلية، فالعالم الافتراضي ينتظرك لتشبع وحدتك به!. 



ولا يوجد متسع لبرنامج ثقافي مثل "بنك المعلومات" لأن أفلام القتل الأكشن صرخة هذا العصر، فلا ضير فهو خيال مخرج، لا يوجد على القنوات الإخبارية التي تركز نظرية الغرب في الإعلام  بأن "الخبر السيئ هو الخبر الجيد" ليحطم الأكامول رقم قياسي في التعاطي.

 ويتم تفريغ المستشفيات النفسية اعتبارا أن مجتمعاتنا مكتظة بالاكتئاب والإحباط والهلوسات، وإذا أردت الشفاء فاستمع لأغنية لا تفهم معناها سوى أن الحبيب غدار وخائن وذهب مع تلك الفتاة المحشوة "بالبوتوكس"! وأن التنورة القصيرة لم تقم بالواجب!.

وأن الأغاني ستجعلك تهز وتهز بإيقاع يثير اشمئزازك  بأصوات معدلة على الحواسيب، يبكون على حب مبتذل رخيص مجمد، ليس له أي صلة بالحب.

"فعصر السرعة" لا يستطيع احتواء صوت أم كلثوم العملاق بذريعة اللحن الطويل الذي يثير نعاسك وتعجز عن دهسه بسيارتك الحديثة بالشوارع، وستحتار بين قصات شعرك الملصقة بالجل.

والبلاطين الممزقة المخربشة التي توحي بتقشفك وزهدك بالحياة وتضامنك مع عشرة آلاف يموتون أسبوعيا  في أفريقيا من نقص التغذية، وستحتار فتياتنا بدهانات "ناشونال" الخاصة للوجوه ليساهموا بإضحاك الناس المثقلين بالفرح الكاذب.

"عصر السرعة" في أوطاننا لن يؤهلك لسفر إلى الفضاء واختراع المراكب والرجال الآليين، بالقدر الذي سيجعلك سريعا وأنت تركض من الدائن وكلب الأرستقراطي، وستتجاوز سرعة الضوء وأنت تبحث عن لقمة عيش لأولادك، وانغماسك في داخلك وأنت تبحث عن صوتك أملا في أن تخلق فرصة يتبناها أحد.

"عصر السرعة" جعل الدين تأسلم يتاجر به أصحاب اللحى، الذين يعتقدون بأن الله سلطهم على عباده لفصل الزنادقة عن المؤمنين! ليحرمون سياقه المرأة ولا يحرمون نوم الأمريكان في أحضان أوطاننا! "عصر السرعة" يؤمن لك فرصة الالتحاق بقهوة أبو علي وذلك لتوفر قدر كبير من البطالة في أوطاننا،.

هذا العصر سيجعلك تخجل من إسم سلمى وزينب لتسمي كريستين ومونيكا، ولن يعود شعراؤنا لتغزل بالعيون السوداء لليلى، فصوفيا حلت مكانها بشعرها الأشقر وعيونها الزرقاء.

عصرنا مكتظ بأمراض القلب والضغط والسرطانات التي يسببها هؤلاء "النزيهون" الذين يلقون مخلفاتهم النووية في أراض بلادنا، مما يجعلك تموت ببطء، حزنا وقهرا وفقرا لا يتناسب مع العصر المسرع الذي روجوه لنا.

وقد تتأثر وتصاب عواطفك بوكسة صحية حين تقتل مغنية أمريكية، وذلك لكثرة التحقيقات والدموع التي تتخضب بها محطاتنا، ولن تدرك أن هناك الآلاف في الخيام ما زالوا يعيشون في غزة وقتل ودمار وهجرة في سوريا، وقتلى في بورما خجل الإعلام عن ذكر أسمائهم.

وهناك جثث يبول عليها الجنود الأمريكان في أفغانستان محملين مع بولهم الديمقراطية والحرية! في الوقت الذي تنتفض به أوروبا لأجل كلب أعرج.

"عصر السرعة" كذب حين قال لكم بأننا أحرار، فنحن نعيش بعبودية لا ندرك كنهها؛ لأنك تفقد ذاتك حين تلبسها، ذاك العصر يقدم لك لغتك معوجة كالجمل الذي يلوك عشبه! يقدم لك لباسك في المتاحف، وجدك جالسا لوحده دون أحد يحيط به.

 سيقدم لك نقود بلا قيمة، ومشاعر باردة تجعلك ترى بشر تبحث في سلة القمامة ولا تبالي، سيجعلك ناكرا جاحدا تصفق لذاك الذي يشتري طائرة خاصة له تبني الوطن العربي ولا تطعمه فقط لعشرات السنوات، سيجعلك أناني متوحدا في ذاتك، سيجعلك على قيد الحياة وقليل من قيد الإنسانية.

ذاك العصر سيجعل أولادك يجهلون كنفاني وناجي العلي وادوارد سعيد وعبد القادر الجزائري وعمر المختار ومصطفى زغلول ومصطفى خليفة والشيخ إمام والأبنودي وغيرهم الكثير من العظماء العرب.

 لأن غرفهم لا تتسع سوى لصور ليدي غاغا و شاكيرا وعن آخر مستجداتهم العاطفية، ولأن الكثير لا يريدك أن تعرف عن هؤلاء العظماء كي لا تصاب بالعدوى، لتكون خاروفا معصب العينين يسير خلف القطيع.

هذا العصر سيجعلك عدوا مع الكتاب ومؤلفه، لأنك صديق تلك التكنولوجيا التي ليست من صنع يداك،  فمن روج لهذا العصر لا يريدك أن  تعلم  أن من مفرزاتهم  60 مليون تم إبادتهم من الهنود الحمر.

100 مليون من الأفريقيين قتلوا أثناء أسرهم كعبيد إلى بلاد الحرية، فعصر الإنسانية والديمقراطية هو غلاف عصرنا الذي ينحصر دورنا به كمشاهدين وما تبقى من رفاتنا يتم به بناء هذا العصر.

"عصر السرعة" ذاك سيقدم لك ما يريده "الآخرون" فقط، فأنت مسلوب الكرامة والإرادة ، لأننا بعصر السرعة الذي سيتولى دهسك إن لم تنساق خلفه، وان أردت أن تثور عليه فثر على نفسك أولا، لأننا نعيش في خارج الزمان والمكان، في اللامكان الذي تشرذمنا به بالحدود وجوازات السفر والتفرقة التي ألغت عروبتنا وفضلت مكان ولادتنا عليه.

لأننا نراهن ونقامر على سلحفاتنا التي تسابق أرنبهم وحصانهم وغزالهم وصواريخهم، لأننا نمجد عنترة أملا في تخدير أنفسنا عن هذا العصر الذي لا مسمى له، والذي نحن موجودين فيه ولكننا لسنا نعيشه.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اقتباسات من كتاب "التخلف الاجتماعي مدخل الى سيكولوجية الإنسان المقهور".

اكتشافات تل الفارعه..الكنعانيون هنا منذ الالاف السنين

البلدة القديمة في نابلس..تروي حكاية تاريخ عريق