السيباط..يغط في سبات عميقَ!

بقلم: ديمة الحاج يوسف


صمت مطبق، لا من أصوات للبائعين لتنجذب وترى بضاعتهم، ولا من أصوات للمارة يفاصلون ويستفسرون، لا من وقت للذروة فيه  فصباحه كظهيرته كمسائه، كأن الباعه يبيعون وقتهم فيه ويسترجعون ذكرياتهم المزدحمة بداخله لا أكثر، فلا رواد ولا مريدين له بعد أن كان قبل أربعون عاما يضج بالحياة وشريان التجارة في جنين.
في يوم مشمس دافئ من شهر ديسمبر في مدينة جنين، دخلت عبر بوابة مقوسة كبيرة فوقها تقع مكتبة البلدية الأثرية في جنين، صعدت درجات حجرية عتيقة  تفصل بين محلات مترامية على اليمين وعلى الشمال، معظمها محلات عطارة وأدوات تموينية.



اشتعلت حواسي برائحة الزنجبيل، وكافة أنواع البهارات، الصابون البلدي، والزيوت العطرية، اثناء صعودي للدرجات والنظر للمحلات، وهناك قابلت السيد  بسام المعاني  صاحب محل عطارة وأدوات تموينية في البلدة القديمة، استقبلني بإبتسامة دافئة وبكلمات طيبة وجلست في محله نتجاذب اطراف الكلام، عرفت أنه يعمل في محله منذ خمسون عاما، وورثه من اباه وجده ويملكانه منذ مائة وخمسين عاما، ويعتبر من بين اقدم محلات جنين المنعشة والتي ما زالت على قيد الحياة.



يتحدث السيد معاني أن البلدة القديمة وأسمها "سوق السيباط"
تم بناؤها أثناء الحقبة العثمانية، والسيباط كلمة عربية معناها بناء كبير مسقوف_ إلا أنه حاليا دون سقف_ له طريقان للدخول و للخروج، وللبلدة القديمة خمسة منافذ.

لكنه يشكو بمرارة ساهمت بصمت متقطع في حديثه وتعلق نظره للأعلى قليلا، ثم ينظر إلي ويقول بأن سوق السيباط يحتضر ولا يوجد دعم كافي للسوق من المحافظة والبلدية والحكم المحلي، ويرى أن مهرجان "سوق السيباط" الذي أقيم لدعمه لم يؤتي بنتائج مثمره وملموسة على أرض الواقع.


والتمعت عيناه الزرقاوان حين تذكر فترة الثمانينات الذهبية كما لقبها وهو طالب في القانون الدولي والعلوم السياسية في بلغاريا، وعن ولعه في البلده القديمه في صوفيا في بلغاريا، حيث زار معاني العديد من المدن الأوروبية والعربية وتوجه لزيارة مدنها القديمه التي يرى أنها رونق المدن وسحرها، وتحدث عن مدى الاهتمام الذي تعنيه الدول الأوروبية في تاريخها وآثارها وأسواقها القديمه والتي تعتبر مصدر جذب سياحي هائل، بالمقابل يقول بسام أن سوق السيباط في جنين بحاجة للكثير من الدعم مثل توفير الإضاءة، وبناء سقف للسوق، والاهتمام بنظافة البلدة، وتشجيع وتقديم تحفيزات لفتح المحلات التجارية فيه وإزدهار الأنشطة السياحية فيه.



وقال أن هناك من يعتقد خاطئا أن مفهوم الحداثة هو بناء مراكز التسوق الضخمة فقط مع إهمال وتهميش المباني التاريخية التي تضيف بصمة للمدينة في تاريخها وثقافتها.

ويرى أن السوق خف وهج تألقه حين اندلعت الانتفاضة الأولى وما رافقها من اغلاق للمحلات التجارية، وموت كبار السن اصحاب المحلات، وعدم اهتمام ابنائهم بها مما أدى إلى إغلاقها وبيعها.

ويعتبر بسام أن هذا المحل هو روحه التي تجد الراحة والسعادة فيه، ومن طقوس ابو العبد المعاني في يومياته بالمحل، ما أن يصلي الفجر حتى يهم بالاستعداد للذهاب إلى محله ويفتح المحل الساعة السادسة صباحا سواء توقيت صيفي أم شتوي، ويقوم مباشرة بتنظيف المحلات  وترتيب الأغراض وعرضها امام المحل - كافة أصحاب المحلات في سوق السيباط ينظفون أمام محلاتهم بأنفسهم، ثم يحتسي كأس من الشاي ويستمع للقرآن الكريم  طوال الوقت أثناء خدمة زبائنه، ويتناول طعام الغذاء في المحل بإستثناء يوم الجمعه، ويتفقد المحل حتى يوم الجمعه وحتى مساء بعد الأفراح أو الأحزان يذهب للجلوس في المحل. وختم حديثه بتنهيدة ثم نصحني بالتوجه لمكتبة البلدية وإستعارة كتاب "جنين ماض وحاضر" للمؤرخ  مخلص محجوب، لكي أروي عطشي وأغوص في تاريخ وثقافة مدينة جنين عبر الأزمان.



وأثناء حديثي معه دخل رجل يسأله عن كيس يانسون فقال له بسام اذهب لدى جاري المحل المجاور لي لديه كميات كبيرة، ابتسمت في قلبي لأن دفء ونقاء العلاقات الإنسانية ما زالت متواجده.

ودعت السيد بسام، وذهبت لأستكشف سوق السيباط بساحاته الكبيرة المرصفة وأبوابه المقوسة، وفيه شبابيك مزخرفة ملونه ومشربيات وأبواب حديدة وخشبية قديمة متينة، ومخازن مغلقة وجدران وبيوت حجرية بيضاء معتقة، وجدت محل نجارة وتنجيد ومحل دجاج ومخيطة، وأنقرضت فيه العديد من الصناعات والمبيَض (النحّاس)، ومصلح البوابير، وعمال الخدمات كالسًقاء والعربجي والبغًال والمكاري (مؤجر الدواب). 

في البلدة القديمة بيوت منها ما هو مهجور وأصبح يجاور مكبات النفايات، ومنها ما هو ضيق ويحتاج لترميم، ومنها ما هو صامد متعايش يتكيف مع تغيرات الزمن ولكنه ما زال بهويته وأصالته، لكن جميع تلك البيوت صبغت بالصمت لا من صوت تلفاز أو طفل يبكي أو إمرأة تنادي على ولدها  أو رجل يتناقش مع جاره، قد يعزى السبب لهذا الصمت الخانق لأن زيارتي كانت بوقت الظهيرة أو لأن المكان همد منذ سنوات طويله وتضامن مع سوقه الذي يغط في نوم عميق، كل ما رأيته هو بعض القطط التي تختلس النظر إلي من تحت السيارات، وبعض الأطفال يدخلون ويخرجون من ازقة ضيقه يلعبون في الدراجات الهوائيه، يصرخون يبتسمون يتوارون عن عدسة الكاميرا قليلا ثم يبتسمون ويهربون من جديد.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اقتباسات من كتاب "التخلف الاجتماعي مدخل الى سيكولوجية الإنسان المقهور".

اكتشافات تل الفارعه..الكنعانيون هنا منذ الالاف السنين

البلدة القديمة في نابلس..تروي حكاية تاريخ عريق