عكا..لا شبيه لها
بقلم:ديمة الحاج يوسف
هناك مدن نسكن بها
دون أن يكون لنا يد في هذا، وهناك مدن تسكن فينا، لأنه حين نراها تستوطن في قلوبنا
وندرك كم هي تشبهنا، لأنها عصية على أن يشابهها احد، وفي عيني رأيت عكا المدينة
العتيده التي لا مثيل لها، وأريد أن أتشبه بسورها العتيد وهوائها العليل وجمالها
الدافئ الذي لم ولن أرى مثله في حياتي.. لأن عكا لا مثيل لها.
بعد مرور 17 سنة من
إقامتي في فلسطين، تحالفت كافة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكي أذهب
لزيارة وطني المحتل لأول مرة في حياتي في الثاني من نوفمبر لهذا العام 2017.
طوال الطريق إلى الداخل، مشاعري تراقصت وتصارعت مثل موج البحر بمزيج من السعادة والاشتياق واللهفة والحزن في آن واحد، شاهدت سهول مرج بن عامر، وجبال التي تطل على قرى جنين، وسجن "مجدو" الذي يقبع فيه أبطالنا الأحرار من ضحوا بأعمارهم وحياتهم لحرية وكرامة الأرض.
توقفت الحافلة قبالة البحر الأبيض المتوسط، للمرة الأولى في حياتي أشاهد البحر، بحرنا المجنون الدافئ الحنون الثائر، شهقت روحي شهقة اهتزت فيها جوانب جسدي من النظرة الأولى، ركضت مثل المجانين وارتميت نحو شاطئها وبسرعة الريح مشيت داخل بحرها شعرت بدفئ الماء يسري في عروقي، غمرتني سعادة لم يماثلها شعور مثله من قبل
.
رطب البحر
الجفاف المتيبس الممتد في روحي وقلبي، شعرت بسلام داخلي يغمرني، جلست
على الشاطئ أتدفئ بشمسها، تلك الساعتين التي حددها مشرف الرحلة مضت كأنها خمس
دقائق هكذا يتلاعب الزمن بنا لا نبالي به حين نكون سعداء لهذا يعدو كالريح.
تضمن مسار رحلتي زيارة "السخنة ونهاريا" ولكن ارتأيت أنهم لا يستحقون الذكر، لأني أنهكت من كثرة رؤية الإسرائيليين ولغتهم وأعلامهم، ولم أرى أي ملمح عربي أو إسلامي أو فلسطيني في أي زاوية شفتها في تلك المنطقتين.
ولم يقضي على هذه المشاعر المثقلة في قلبي، إلا الجميلة البهية القوية مدينة الجبابرة عكا، بسورها الشامخ الأبي الذي اشرأبت له الأعناق وتهافت إليه القلوب للنظر إليه، متكامل الجمال قاهر نابليون لسبع مرات ولاعن جنوده بالطاعون الأسود، حيث بنى السور الظاهر عمر عام 1750، يبلغ طول السور 500 م في الشمال و300 م في الشرق، ويصل علوه إلى ثمانية أمتار تقريباً، وسمكه حوالي متراً واحد .
بناها الكنعانيون في الألف الثالثة قبل الميلاد جعلوا منها مركزا تجاريا وعصبا للحياة والتواصل مع العالم، ومر عليها الفينيقيين، والإغريق والرومان والفرس والصليبيون، وآخر الغزاة هم الانتداب البريطاني والاحتلال الإسرائيلي الذي سيصبح يوما ماضيا لا واقعا لأن فلسطين تلفظ المحتل وتبصق وجوده زقومي المذاق مهما مر الزمان وتعقدت الظروف.
في الحقيقة أدرك أن هناك الالاف من المدن الساحرة التي تفوق الوصف اللغوي وتأسر القلب من جمالها في هذا العالم الشاسع، وأعرف أن جمال بعض المدن يتم قياسه بالتقدم المعماري و بالطبيعة الخلابة و بالبصمة التاريخية الأثرية فيها.
ولكن عكا ستبقى لا مثيل لها، ليس لتاريخها العريق وهي من أقدم المدن في التاريخ الفلسطيني، لأن ما يميزها أنها صامدة وأنها عربية حتى النخاع، أحببتها لأنها المدينة الفلسطينية المحتلة التي يحتشد فيها أعلى نسبة للفلسطيننين فيها، ولا يزال يسكن اهلها في كلّ بيوت البلدة القديمة المتكاملة بمعالمها الأثرية والدينية والتراثية المحافظ عليها بشدّة، ولا تشاركها بهذا التميّز سوى مدينة الناصرة.
حيث حافظ اهلها داخل البلدة القديمة على مساجدهم وكنائسهم وبيوتهم
الساحرة بأصالتها وجمالها الذي تاريخ صلاحية له، فيها شعرت بالأمان، بالقوة،
بهويتها الفلسطينية، كيف لا وقد دعوها الكنعانيين ب (عكو) تعني الرمل الحار، وهي
الملتهبة الكرامة.
اللغة العربية سحرت مسمعي واهل عكا يتحدثونن بها وهم يمشون بالشوارع يتوجهون للمساجد يعلقون لافتات على الجدران للحث على التمسك باللغة العربية ولاعتزاز بالدين الاسلامي يجلسون في المساء على شرفاتهم العتيقه، المقاهي والشوارع تنبض بالحياة والأضواء ويتسرب منها صوت أم كلثوم، كم كان صوتها عذبا متفردا بسحره وهي تطرب مدينة عكا وتلثمها حبا.
ومن حسن حظي أنني زرت عكا في المساء، لأنك إذا أردت أن تحكم على جمال مدينة فانظر إليها ليلا فهي تتكشف لك فإما تبدو شاحبة لا حياة فيها تزيل المساحيق عن وجهها فتبدو مدينة اشباح، أو تكون قلب نابض عروس فلسطينية فائقة الجمال، في عينيها كحل مختلط بمزيج من الكبرياء لا يستطع أن يمسها أحد.
يُشار بالذكر إلى أن (اليونسكو) أدرجت في عام 2001 البلدة القديمة في عكا، التي تحوي آثارا عثمانية وصليبية، ضمن قائمة التراث العالمي.
تعليقات
إرسال تعليق